من ذاكرة الفلاحين الجواخين في ذاكرة الريف العراقي

من ذاكرة الفلاحين الجواخين في ذاكرة الريف العراقي

حسين شهيد المالكي
كاتب عراقي

يشتهرُ العراق بزراعة النخيل وخاصة في المنطقة الوسطى والجنوبية نتيجة خصوبة الارض واجوائها المناخية الملائمة للزراعة.. وكان العراق من البلدان الاولى في انتاج وتصدير التمور عالميا في المنطقة. والنخلة اشرف الشجر واعلاها مرتبة ويرجع تاريخها في العراق الى ايام حمورابي، حيث وجدت في شريعته تدوينات مهمة تؤيد ذلك.. والنخلة شجرة مباركة معطاة بكل شيء في ثمرها وسعفها وكربها وجذعها وظلها وحتى منظرها فيه راحة للنفوس، وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم والحديث الشريف (اكرموا عمتكم النخلة) كذلك ورد ذكرها في كتب التاريخ حيث ذكرها (ابن الوردي) في كتاله (فريدة العجائب وفريدة الغرائب) كذلك سميت النخلة بـ(العيطة) وهي النخلة الطويلة وجمعها (عيط) ويتراوح طولها ما بين (25-30م) وتعد النخلة من الاشجار المعمرة في الارض حيث يتراوح معدل عمرها ما بين (100-200سنة) وكانت اطول نخلة في بغداد هي العيطة الواقعة على الكتف الايسر من نهر دجلة الخالدة في منطقة العيواضية.. ومن عجائب امرها بانك اذا اخذت نوى تمر نخلة واحدة وزرعت منها ألف نخلة جاءت كل نخلة منها لا تشبه الثانية او الأم. ولاهمية النخلة في حياتنا اليومية لانها مصدر غذاء رئيس ورد ذكرها كثيرا في تراثنا الادبي والغنائي والشعبي وفي الامثال والكتابات ونذكر بعض النماذج منها :
* كل يوم هزي تمر يا نخلة.
* لو تطلع براسه نخلة.
* يبلع النخلة وسليها.

كما ذكرها الشاعر الملا عبود الكرخي حيث قال:
يا فقير اجمع حواسك
ضاع بالاوطان باسك
نخلة لو تطلع براسك

وقال ايضا في قصيدة بعنوان (يا دهر ما هذا الغلط) والتي نشرها في جريدة (صوت الكرخ) عام 1948.
الناس كل يوم اليمر
تأكل الخستاوي تمر
والداعي كاسات الصبر
اجرع وروحي السايحة

وقال ايضا :
بغداد مبنية تمر
ما ينكضي هذا العمر
يهواي دبرلي الامر
التين اصبح لاوي

وكان معظم الفلاحين والمزارعين الذين يعملون في بساتين النخيل لا يملكونها وانما يعمل صيفا وشتاء لقاء حصة معينة من الانتاج وليكن ربع او ثلث الحاصل من التمور.. فهولاء يعملون على طول السنة لحين موسم (الكصاص) وهو جني اثمار النخيل ويكون عادة في نهاية كل صيف.. فتجمع التمور في مكان مخصص يكون عادة على شكل دائري او مربع ويكون حجمه حسب كمية التمور المراد جمعها فيه وتسمى هذه الاماكن بـ(الجواخين) اي مكان جمع التمور وهو يبنى من قبل الفلاحين من سعف النخيل وباطار جميل وتفرش الارضية والحصران والبواري وتجمع فيه التمور على شكل اكوام حسب نوعها، مثل الخضراوي، الزهدي، الديري، وغيرها وكان لكل فلاح او مزارع (جوخان) يجمع محصوله من التمور.. وان عملية كص التمور وتنزيلها من اعالي النخيل عملية صعبة ومتعبة وتحتاج الى عدة ايام واسابيع واحيانا يستعين الفلاح بمجموعة من العاملات وتسمى (الطواشات) من النساء في جمع التمور ولقطها بعد تناثرها على الارض من جراء عملية التنزيل.. ثم تقوم الطواشات بنقلها الى (الجوخان) بواسطة اناء يدعى (الكفة) وهي مصنوعة من حياكة خوص سعف النخيل وتسع حوالي (15كغم) من التمور وبعد انتهاء وقت العمل في ذلك اليوم تاخذ كل عاملة اجرتها من التمر بمقدار الاناء الذي تعمل فيه.. وهكذا تتكرر العملية عدة ايام لحين انهاء جني جميع انواع التمور في البستان. وبعدها يقوم الفلاح بكبس بعض انواع التمور مثل الخضراوي والبرحي وامثالها في (الحلان) وهي وعاء مصنوع من حياكة خوص سعف النخيل وتزن الواحدة حوالي (25كغم) اما الانواع الاخرى فتكيس في اكياس خاصة وهكذا.. ثم تقسم كمية التمور ما بين الفلاح والملاك وحسب النسب المتفق عليها.. وبعدها يقوم المزارع بخزن قسم من التمور للاستهلاك اليومي ويبيع الفائض الى تجار التمور.. ثم ترفع الجواخين وتصبح حطب للتنور في فصل الشتاء. وان معدل انتاج التمور في العراق قد انخفض في الوقت الحاضر لاسباب عديدة نذكر منها:1. التوسع العمراني للمدن على حساب البساتين.2. الحروب واثارها التي خلفت اكبر المجازر للنخيل في تاريخ العراق.3. اقبال دول الخليج الى شراء الانواع الجيدة والنادرة من النخيل.4. انتشار الامراض وفي مقدمتها مرض الدوباس والسوسة الحمراء التي تقضي على النخيل.5. هجرة بعض الفلاحين بساتينهم بسبب كونها لا ترد مردودا ماليا يكفي العائلة العراقية وقد ازداد الاهتمام بالتمور في الوقت الحاضر وزيادة الطلب عليها بعد ان ادخلت المكائن الحديثة والمعامل في كبس وتعليب وصناعة التمور.. ورغم ذلك تبقى الجواخين ذكراها عالقة في ذاكرة المزارعين على مر الزمان.